دقت ساعة الحقيقة في مصر

دقت ساعة الحقيقة في مصر

زلزال الأزمة في أوكرانيا وتوابعه يقدمان دروسا عدة للنظام المصري تفرض إعادة التفكير في الكثير من القضايا بجدية قبل أن تجد البلاد نفسها أمام تحديات داخلية جديدة أو على مقربة منها.


ما حجم تداعيات أزمة أوكرانيا على مصر


لا توجد أزمة قمح بمصر حتى الآن والمخزون يكفي نحو أربعة أشهر والإنتاج المحلي المنتظر حصده في أبريل المقبل يسهم في توفيره حتى نهاية العام. هكذا طمأنت الحكومة المصرية المواطنين مع اندلاع شرارة الحرب في أوكرانيا مؤخرا، حيث تستورد القاهرة حوالي 80 في المئة من قمحها من دولتي روسيا وأوكرانيا.

أراح هذا التطمين شريحة من المصريين، غير أن كبار السن منهم يعلمون أن للحروب الدولية تداعيات مختلفة ومفاجآت متعددة ليس بالضرورة أن تكون كلها مباشرة والشباب تنتابهم هواجس مبدئية من السرعة التي تظهر على تصرفات الحكومة لتبديد مخاوف الناس من الأحداث الطارئة.

زادت الأسعار المحلية للدقيق المستخلص من القمح ويصنع منه الخبز في مصر أو “العيش” كدليل على أهميته في الحياة، وبالتالي ارتفعت أسعار البيع للمستهلك في الكثير من المناطق المصرية، ما جعل الأزمة العالمية حاضرة في الشؤون الداخلية.

من المنتظر أن تستثمر الحكومة الأزمة الأوكرانية لتنفيذ خطتها المؤجلة والمتعلقة برفع الدعم تماما عن الخبز، وتملك من التفسيرات ما يكفي لدعم خطابها الاقتصادي، ومن المبررات السياسية ما يمكن أن يخفف من وطأة ردود الفعل في الشارع.

هذه واحدة من الانعكاسات المهمة للحرب التي لا أحد يعرف بالضبط متى تنتهي وعلى أي شكل سوف تطوي صفحاتها، ولعلها فرصة لإيقاظ الوعي العام والدفع نحو الانتباه إلى أن ساعة الحقيقة دقت وحان وقت مواجهة المشاكل بطريقة أكثر حسما.


لا يزال تصنيع المنتجات الأساسية محليا لم يأخذ حظه من الاهتمام في مصر، ما يعني الاعتماد على الخارج الذي يموج بتحولات يصعب التنبؤ بنتائجها


يمثل استيراد القمح وارتفاع أسعار الخبز المحتمل على نطاق واسع في مصر أحد مظاهر الأزمة الدولية لتلفت النظر إلى خطورة الزيادة السكانية المطّردة في البلاد، ومدى الحاجة إلى مواقف رشيدة من المواطنين وتحركات صارمة من الحكومة للحد من تفاقمها، لأن هناك أزمات أخرى يمكن أن تنشب وتلقي بظلالها على دول عديدة من بينها مصر ما لم تملك الحكومة تصورات ناجحة توقف شبح السيناريوهات القاتمة.

وللأزمة في أوكرانيا إفرازات إيجابية على مصر تجعلها تحقق فوائد كبيرة إذا أحسنت التصرف معها، فالغاز الروسي المتجه إلى دول في أوروبا يمكن أن يتأثر بالحرب وروافدها الاقتصادية التي وصلت إلى حد فرض عقوبات قاسية على موسكو.

في ظل الاكتشافات الواعدة لغاز شرق البحر المتوسط قد يكون للقاهرة نصيب جيد في المستقبل القريب يرتبط بدرجة القدرة ومستوى المرونة في تبني المواقف التي تسهم في الاستفادة القصوى من هذه السلعة الاستراتيجية.

لكن للأزمة أيضا انعكاسات سياسية متباينة، حيث تحاول مصر أن تؤكد عدم انحيازها لأي من الأطراف المتصارعة كصيغة تخلصها من مخاطر الميل إلى طرف على حساب آخر، وظهرت ملامح ساطعة الأيام الماضية تشي بخطأ اعتقاد أي دولة ذات أهمية فائقة وموقع جغرافي مميز مثل مصر أن تكون بعيدة عما يدور في أفنية أوروبا.

انتبهت الدول الصناعية السبع والاتحاد الأوروبي وأصدر سفراؤهما في القاهرة بيانا قبل أيام حث مصر على إدانة التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وألمح إلى إمكانية أن تحصد مكاسب من وراء هذه الخطوة (أو تدرأ خسائر)، ما يوحي أن سياسة الحياد التي تحاول القاهرة أن تبدو عليها لم تعد رائجة وغير مطلوبة.

لعل التغير النسبي في الموقف الغربي من الأزمة الليبية وما يحمله من رسائل غامضة لن يكون بعيدا عن مصر، إذ تفضي توجهات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى عدم استبعاد الاستثمار السياسي في الأزمة مع الدول التي لها مصالح حيوية في ليبيا، في مقدمتها مصر، ما يعني أن القاهرة غير بعيدة عن تأثيرات الأزمات الإقليمية.

ويقدم زلزال الأزمة في أوكرانيا وتوابعه دروسا عدة للنظام المصري تفرض إعادة التفكير في الكثير من القضايا بجدية كافية قبل أن تجد البلاد نفسها أمام تحديات داخلية جديدة أو على مقربة منها، لأن الكرة على المسرح الدولي تتدحرج بسرعة فائقة.

يمكن رصد أربعة محددات رئيسية تستحق الالتفات إليها والتفكير فيها وتشير إلى أن الأزمة لها أهمية تستوجب وضعها على قمة جدول أولويات الإدارة المصرية لتتمكن من بلورة دور للدولة تحت شمس ربما تحرق كل من يتمسك بجموده.


كلما جرى الاعتماد على الخارج وزادت الأزمات في الداخل كان من الصعب الحفاظ على توازن لا يستمد منطلقاته من درجة القوة الشاملة


الأول: وضع حد للزيادة السكانية التي تقلل من فائدة المشروعات التنموية المنتشرة في ربوع البلاد، والتي تفرض على الحكومة مضاعفة الاستيراد من الخارج لسد جزء كبير من العجز الخاص باحتياجات المواطنين من القمح، والتوسع الحالي في زراعة مساحات من الأفدنة لإنتاج هذا المحصول لن يكفي لردم الهوة.

وأخفقت الخطط التي تبنتها الحكومة لوقف الزيادة السكانية في تحقيق تقدم على مستوى إقناع المواطنين بأهميتها بما يتطلب التفكير بطرق أكثر ابتكارا، فما لم يتم إيجاد حلول عاجلة لهذه الكثافة سوف تظل المعاناة مستمرة حتى تتمكن الدولة من سد احتياجاتها من القمح، فلم يعد تدفقه سهلا أو رخيصا من الناحيتين المادية والمعنوية.

الثاني: زيادة الإنتاج المحلي، فمع الهزات التي يمكن أن يواجهها العالم جراء الأزمة الأوكرانية يمكن أن تتعطل عملية استيراد الكثير من السلع، فالقمح ليس السلعة الوحيدة التي تتأثر لأن جزءا كبيرا من السلع التي يستهلكها المصريون تأتي من الخارج.

ولا يزال تصنيع المنتجات الأساسية محليا لم يأخذ حظه من الاهتمام في مصر، ما يعني الاعتماد على الخارج الذي يموج بتحولات يصعب التنبؤ بنتائجها.

وفي كل الأحوال سوف تجد الدول التي تستورد الكثير من حاجاتها نفسها في مفترق طرق، فالحرب الاقتصادية المدمرة باتت جزءا من منظومة الحروب الدولية، الأمر الذي يجسده ما يحدث مع روسيا بعد تدخلها عسكريا في أوكرانيا.

الثالث: الاستعداد لحدوث تحولات في النظام الدولي تفرض حسم الخيارات المصرية، ربما تسمح الفترة الحالية بصياغة مواقف متوازنة وتجنب خسارة أي من روسيا أو الولايات المتحدة، لكن المحصلة الناجمة عن الأزمة الأوكرانية لن تصلح معها توازنات يمكن كسرها في أية لحظة بسبب القابلية للضغوط.

وكلما جرى الاعتماد على الخارج وزادت الأزمات في الداخل كان من الصعب الحفاظ على توازن لا يستمد منطلقاته من درجة القوة الشاملة، فالقوة العسكرية التي تملكها مصر من الأدوات الرئيسية للدفاع عن الدولة لكن ليست كلها.

الرابع: وقف الرهان على الزمن لتجاوز التحديات الإقليمية، فالأزمة بين روسيا وأوكرانيا قديمة ولاحت معالمها منذ سنوات وسلكت موسكو نوعا خاصا بها من الصبر الاستراتيجي لعلاجها حتى انفجر البركان في لحظة يمكن أن تقود إلى نتائج لم تكن في حسبانها، وهو جرس إنذار لمصر لتتحرك لتسوية أزمة سد النهضة بالطريقة المناسبة لأن المسار الذي تسير فيه قد يدفع إلى الانفجار.

من ثم، فساعة الحقيقة في مصر دقت نواقيسها بقوة لمواجهة التحديات وتصحيح ما يجب تصحيحه من مشكلات داخلية وضبط المفاصل المختلة خارجيا.

أترك تعليقا

أحدث أقدم